يؤمن بوجود إله، ولكن ليس إله الأديان

1.

يقول الكاتب : كما أسلفت في مقالتي السابقة (قصتي من سجن الإلحاد إلى حرية الإيمان)، كنت في مرحلة من المراحل أؤمن في قرارة نفسي بوجود إله، ولكني كنت غاضبًا منه، كنت، وليغفر لي الله، رافضًا له، بسبب تحميلي له مسئولية ما في هذا العالم من شر وبؤس وظلم وقهر. لذلك، كنت أقول أحيانًا بأنني قد أؤمن بوجود إله، ولكنه ليس ذلك الإله المخيف الذي يعذب الناس، في الدنيا قبل الآخرة، الذي تتحدث الأديان عنه!

كثيرًا ما بتنا نسمع ذلك القول يتكرر هذه الأيام، مع أنه لا يقل في الحقيقة تفاهتًا وافتقارًا للعقلانية عن القول بعدم وجود إله من الأصل، وسأحاول في هذه المقالة مناقشة تلك العبارة وإبراز الإشكاليات والتناقضات الكامنة فيها.

للحق، هي نقطة جيدة للنقاش البدء بالتسليم بأن هناك إلهًا أو خالقـًا للكون، فالقول بذلك يعبر عن رؤية إيجابية على الأقل، خلافـًا للرؤية السلبية النافرة التي تنفي وجود ذلك الخالق، وتجعل من صاحبها أقل قابلية لتقبل الحوار العقلاني من الأساس، والشخص الذي يقول بأن هناك خالقـًا، أو من يسمونه «الربوبي»، لا يستطيع أن ينكر أن ذلك الخالق يتمتع بقدرات مذهلة جبارة خارقة، وإلا لما استطاع إيجاد ذلك الكون الهائل البديع المحكم التنظيم. وهنا يكمن تناقض مهم يدحض فكر الربوبي الرافض للتسليم بأن الخالق الذي يؤمن بوجوده هو نفسه الخالق الذي تتحدث عنه الرسالات السماوية.

هل يتدخل الخالق في حياتنا؟!

من التناقض الصارخ الإقرار بأن خالق الكون يتمتع بقدرات معجزة، تتجسد على الأقل في القوانين المعقدة التي تحكم حركة الكون، التي نكتشفها ولا نوجدها، وبين الافتراض بأن ذلك الخالق العظيم قد أوجد ذلك الكون بشكل غير واع أو غير مقصود، أو أوجده من باب العبث، أو أوجده لغير ما غرض معين، فعقلنا البشري ومشاهداتنا تؤكد لنا أنه ليس هناك من كائن يتمتع بالحد الأدنى من العقلانية يمكن أن يقوم بصنع شيء في منتهى التقدم والصعوبة والضخامة والتشابك والإحكام، دون هدف أو غرض.

فحتى الكائنات البدائية الحيوانية التي نصفها في العادة بأنها لا تملك عقولاً متطورة مثل عقول البشر لا تفعل ذلك، فالنحل مثلاً يقوم بتشييد الخلية لأغراض معينة، والعنكبوت تنسج بيتها وشباكها لأغراض معينة، والطيور تبني أعشاشها، بل ترقص وتستعرض جمال ريشها أمام الإناث منها لأغراض معينة، فلماذا يفترض بعضهم أن كل تلك الكائنات تقوم بكل ما تقوم به وهناك غايات تسعى إلى تحقيقها من وراء أفعالها، بينما لا ينسحب ذلك على خالق الكون، الذي يراد لنا أن نصدق، حسب مزاعم صاحبنا الربوبي، أنه قد قام بتصميم الكون وإيجاده، هو وما فيه ومن فيه، دون سبب، ودون أن يكون معنيًا بعد ذلك بما قد يحدث له ولمن فيه؟!

بعض من يقولون بذلك ينطلقون من الرغبة في تنزيه ذلك الخالق عن التنازل والتدخل في شؤون الكون والمخلوقات، على اعتبار أن ذلك سينتقص من شأنه وينال من عظمته وسموه ورفعته، ولكن القول بذلك يشبه القول بوجوب أن يعيش الملك في قصر بعيد معزولاً عن رعيته، حتى لا يزعج نفسه أو يتدنس بغبار التفاعل مع مشكلات شعبه!

الفرق الجوهري هنا أن تدّخل الله في حياة مخلوقاته، لن ينتقص من هيبته ومكانته وجلالته بحال من الأحوال، ببساطة شديدة لأن قدراته الخارقة اللامحدودة تجعله قادرًا على إدارة شؤون خلقه دون أن يمسه أدنى نصب أو تعب أو لغوب، كما أنه كائن متجاوز للمادة، لذلك فإنه كان وسيظل حتمًا ودائمًا وأبدًا مترفعًا ومتساميًا فوق عباده، الذين قد لا يشكلون بالنسبة له جل جلاله هم والكون وما فيه جناح بعوضة. فتدخّله في حياتهم، بدءًا بخلقهم، يأتي من باب كرمه ولطفه وعطفه عليهم، حينما منحهم شيئًا من اهتمامه ورعايته.

وقد يقول قائل هنا: ولكني لم أطلب منه ذلك الاهتمام، ولم أطلب منه أن يخلقني من الأساس! هذا الكلام الطفولي البائس يشبه كلام الابن العاق الذي يريد تبرير جحوده لأبويه بأنه لم يطلب منهما أن ينجباه، بدلاً من أن يقر لهما بالفضل والعرفان! وأتذكر هنا طرفة تثير أشجاني، فقد كنا أنا وإخوتي ونحن صغار نحاول إغاظة المرحومة أمي أحيانًا عندما نشاكسها فتقول لنا: خسارة فيكم الحليب الذي رضعتموه! فنرد عليها بالقول: لا تمنّي علينا، فسنحضر لك رطلين من حليب البودرة (النيدو) بدلاً من حليبك!

كيف تواصل الله معنا

عندما تقوم شركة ما بصنع منتج ما، فإنها تعد دليلاً تفصيليًا حول كيفية استخدام ذلك المنتج، وإلا فإن من المرجح أن يؤدي استعماله العشوائي المتعسف الذي لا يستند إلى دليل إرشادي إلى تلفه وفساده، أو على الأقل إلى استخدامه على نحو غير سليم، مع عدم القدرة على الإفادة من سائر إمكاناته ومزاياه، المنطق يقول بذلك؛ ولذلك، عندما خلق الله تعالى البشر، كان من الطبيعي أن يرسل لهم أدلة تبين لهم لماذا تم صنعهم، وكيف عليهم أن يتصرفوا بحياتهم، وما الجيد والسيء لهم، وما مصيرهم، وما النهج الذي ينبغي عليهم السير عليه حتى يحظوا بالمكافأة والثواب، ويتجنبوا التعزير والعقاب.

وبالطبع، فإنه ليس من المنطقي أو من حق المصنوع سؤال الصانع لماذا صنعه، فالصانع حر تمامًا في صنعته، وبخاصة في حالة الله تعالى، فهو أكبر وأعظم من أن يقدم مخلوق بائس من مخلوقاته على مساءلته عن أسباب خلقه! ولكن لأنه الرحمن الرحيم اللطيف الودود، فإنه تقبّل أسئلة مخلوقاته وناقشها وأجاب عليها باستفاضة في كتابه العزيز، كما حدث مثلاً عندما تعجب الملائكة من خلقه لآدم عليه السلام، الذي سيفسد في الأرض ويسفك الدماء حسب تخوفهم، فأجابهم سبحانه في غير ما موضع من القرآن الكريم بأن المخلوق الجديد كائن مميز، قادر فعلاً على ارتكاب الشر، لكنه يملك القدرة أيضًا على التفكير والتعلم وعلى الاختيار وعلى فعل الخير.

ولأن الله قد خلق البشر حتى يختبرهم، فقد كان من الطبيعي ألا يرسل ملكـًا أو وحيًا خاصًا لكل منهم، وإلا لآمنوا جميعهم ولما كان هناك معنى للاختبار! وبعضهم هنا قد يعترض بالقول: ولكن لماذا يختبر الله الناس من الأصل؟! عجيب هو أمر من يطرح مثل ذلك التساؤل الساذج! لأننا نقضي حياتنا على ظهر هذه الأرض ونحن نتعرض لما لا حصر له من اختبارات مستمرة بعضنا من بعض نحن البشر. فنحن نخضع للاختبارات كل يوم في البيت وفي المدرسة وفي الجامعة وفي الشركة وفي المجتمع عمومًا، والاختبار هنا بمعنى تقييم السلوك والأداء، فلماذا نقبل بتلك الاختبارات ولا نستهجنها ونخضع لها دون تساؤل، بينما نستنكر أن يقوم الله، خالقنا، باختبارنا، ونرفض أن نعترف به وباختباره؟! إننا نتجشم عناء أخذ تلك الاختبارات التي لا تنتهي حتى ننال بعض الجزاء المادي أو المعنوي، فلماذا نستبعد فكرة اختبارنا من جانب الله ووجود أجر مادي ومعنوي يتناسب مع أدائنا!

نعود إلى فكرة الأدلة التي أرسلها الله إلينا. ابتداءً، الصانع أدرى الجميع بما صنع، والخالق أعلم الجميع بما خلق. فمن السفه أن نقتني هاتف نوكيا مثلاً، وأن نبحث عن دليل من شركة سامسونج لمعرفة كيفية تشغيله واستعماله على النحو الأمثل! وكذلك فإن من السفه أن نعلم أن الله هو الذي خلقنا، ثم نذهب إلى شركات ماركس أو لينين أو فرويد أو هيغل أو نيتشة أو سارتر كي يقولوا لنا لماذا خُلقنا وكيف علينا أن نعيش!

كل ما بإمكاننا فعله، إذا كنا نتمتع بشيء من العقل والحكمة والحصافة، أن نتحقق من صحة الأدلة التي أرسلها الله إليها، ومن صدق المندوبين/ الرسل الذين أرسلهم بتلك الأدلة. وذلك ليس بالأمر العسير أو المستحيل، فقد زودنا الله بفضله وكرمه بعقول قادرة على التحليل والتمييز وإدراك التناقضات واختبار الصواب من الخطأ، فإذا ما وجدنا مثلاً كتابًا يدعي بعضهم أنه منزل من عند الله، بينما يشتمل ذلك الكتاب على تناقضات داخلية لا يمكن حلها أو تسويتها إلا باختلاق تفسيرات مريخية، أو على تعارضات جلية مع حقائق العلم الثابتة، فإن من الواضح أنه كتاب ملفق أو محرف، ولا علاقة له بالله.

وهنا يجدر التنويه إلى نقطة بالغة الأهمية، وهي أننا قد نجد في كلام الله، الحقيقي وليس المحرف، أمورًا صعبة على استيعاب عقولنا المحدودة، لكنها لا تخرج بحال من الأحوال عن نطاق الممكن والمعقول والمنطقي. بينما من المحال أن نجد فيه أمورًا تتناقض مع العقل والممكن والمنطق. وهذا ما يميز الإسلام عن بقية الأديان، إذ لا تجد فيه أفكارًا تتعارض مع العقل، حتى وإن بدت غريبة جدًا وعصية على فهم كيفيتها. فمثلاً، نجد القرآن الكريم يقول إن النملة قد تكلمت محذرة صويحباتها من أن يدوسهن جيش سليمان عليه السلام. مثل هذه المعلومة قد تبدو أمرًا خرافيًا متعذرًا على التصديق! ولكن لو تأملنا فيها فهي شيء معقول وغير مستحيل، فمن جهة، الخالق العظيم قادر ببساطة على إنطاق النمل، ومن جهة أخرى فإنه قادر على تمكين سليمان من فهم لغة النمل أيضًا، والطريف في الأمر، أن العلم الحديث قد اكتشف أن النمل يتكلم ويصدر أصواتًا بالفعل، ومن لا يصدق ذلك، فليراجع هذا الخبر العلمي:

.

في المقابل، فإن بقية الأديان بعد دراستي المتأنية لها تتضمن أفكارًا لا يمكن هضمها البتة. فهي تقدم عقائد متناقضة، مبررة تلك التناقضات بأن الله على كل شيء قدير! نعم الله قادر على فعل كل شيء حتمًا، ولكنه قطعًا لا يمكن أن يفعل ما من شأنه تهشيم جلاله وعظمته، كما أن من المحال أن يقدّم لعباده معلومات متناقضة ومستحيلة عن نفسه، كأن يقول مثلاً بأنه واحد، ثم يقول في مكان آخر بأن ذلك الواحد هو سبعة في واقع الأمر، يتواجدون في أمكنة مختلفة! وإلا لجاز للإنسان أن يعبد ضفدعة مثلاً، وأن يزعم أن هذه الضفدعة هي الله، وأن عقولنا قاصرة عن إدراك كيف تجسد الله في تلك الضفدعة، باعتباره على كل شيء قدير، وأنه ليس لنا إلا أن نؤمن بذلك ونسجد لتلك الضفدعة ونقدم لها القرابين، ونتجنب تشغيل أدمغتنا الكسيحة!

لماذا يشكل وجود إله الرسالات السماوية أمرًا ضروريًا لا غنى عنه؟

لو تأملنا حياتنا من منظور عام شامل، لوجدنا أنها لا يمكن أن تستقيم إلا بالإقرار بوجود إله الإسلام. فمن دونه تبارك وتعالى، لن يكون للحياة أي معنى، فما معنى أن تولد وأن تذهب إلى المدرسة ثم الجامعة، ثم تعمل، ثم تتزوج وقد لا تتزوج، ثم تنجب وقد لا تنجب، ثم تهرم ثم تموت، ضمن رحلة قصيرة محفوفة بالأوجاع والآلام، مهما بلغ حجم المسرات والمتع فيها!؟

إذا استبعدنا وجود الله الذي خلقنا وسيحاسبنا على أفعالنا، فإن حياتنا تغدو بمنتهى التفاهة والعبثية، وإذا كان الموت الحتمي هو نهايتها، فالأفضل أن يشنق المرء نفسه للتو واللحظة، لأن الحياة عمليًا تتساوى مع الموت! وهنا قد يكون من المفيد الإشارة إلى أن حوالي 30 ألف شخص ينتحرون في اليابان سنويًا، بالرغم من التقدم المادي الخرافي الذي وصل الناس إليه هناك. لكن افتقارهم لمعنى لحياتهم ولوجودهم، وعدم إيمانهم بإله سيقفون بين يديه ليحاسبهم، يجعلهم يفرون إلى الموت، إما مللاً وقرفـًا، وإما هربًا من ضغوط الحياة!

من زاوية أخرى، دون التسليم بإله الإسلام، ستنشأ مشكلة أخلاقية عويصة لا حل لها، فما دام المرء لن يقف أمام خالقه كي يحاسبه على ما صنع في دنياه، فمن الحماقة أن يلتزم بأي من الفضائل، ومن الحكمة والرشد أن يجتهد قدر استطاعته في الجري خلف إشباع متعه وشهواته بأية طريقة ممكنة، إذا أمن العقاب. فإذا ما توافرت له القوة مثلاً لأن يغتصب جارته الحسناء فتكات، وهو يعلم أن لا أحد سيجرؤ على منعه أو معاقبته، إما لأنه بلطجي شقي عتيد، وإما لأنه رجل دولة متنفذ على شاكلة صلاح نصر، فلماذا يتورع عن ذلك، ما دام فعله سيوفر له بعض السعادة واللذة!

ثم من يستطيع أن يقرر أن فعله هو فعل سيء من الأساس! فالبشر بدون الله سيخضعون حتمًا إلى نسبية طاغية، فيغيرون أخلاقهم كما يغيرون أحذيتهم، حسب المصالح والأهواء، فقبل عقود قليلة، كان الشذوذ الجنسي مثلاً يشكل جريمة نكراء تستوجب العقاب، والآن تحول، نزولاً عن ضغوط الفاسدين المفسدين، إلى ممارسة قانونية طبيعية في كثير من المجتمعات! وسيأتي اليوم الذي سيطالب بعضهم فيه بمنحهم الحق القانوني في ممارسة الرذيلة مع الحيوانات، وهناك مؤشرات قوية على اقتراب ذلك اليوم. إذ لعلكم تقرؤون من حين لآخر أخبارًا عن زواج قد تم بين امرأة وكلب، أو امرأة وحمار! كذلك سيأتي اليوم الذي سنرى فيه الرجل يعاشر أمه أو ابنته أو أخته بمباركة من القانون، ما دام ذلك برضاهما! فمن دون الإقرار بوجود الله، والالتزام بأحكامه وأوامره ونواهيه، كل شيء قابل لأن يصبح ممكنـًا ومشروعًا، بل محبذًا!

هل الله ظالم!

ماذا يعني الظلم؟ الظلم ضد العدل والإنصاف، وإن كان له معان عديدة، من أبرزها في السياق الذي نتحدث فيه الجور وتجاوز الحد، وسلب الناس شيئًا من حقوقهم. بالتأمل في تلك المعاني، فإن مفهوم الظلم لا يمكن أن ينطبق على أي من أفعال الله تجاه عبيده، أولاً لأنه هو الذي أوجدهم من العدم، وثانيًا لأنه يملكهم بالمعنى الحقيقي والحرفي للكلمة ملكية مطلقة، فهم له، وهم إليه راجعون، وثالثًا لأن حياة الإنسان وعذاباته ومعاناته على الأرض مهما بلغت لا تمثل شيئًا يذكر في واقع الأمر في عمر الزمن، فعمر الكون كما يقول العلم يصل إلى قرابة 13.7 بليون سنة، والحياة التي يعد الله بها الناس بعد الموت حياة أبدية بلا نهاية. وكنقطة على الهامش، مجرد التفكير في عمر الكون المذهل يثبت أن الحياة الأبدية ممكنة!

إن اتهام إله الإسلام بالظلم من جانب بعض قصار النظر، ومن ثم رفض الاعتراف به والانقياد له، ينبعث في المقام الأول من تورطهم في مغالطة تشبيه الله بمخلوقاته. فنجد واحدهم يقول: هل يمكن لأب عاقل رحيم عطوف مثلاً أن يحرق أولاده إلى الأبد مهما بلغ حجم أفعالهم السيئة وعقوقهم له! المشكلة هنا كما ترون تكمن في سذاجة التشبيه، فالله تبارك وتعالى ليس بأب للبشر حتى يتم طرح ذلك السؤال السخيف، الذي يريد مساواته ببعض خلقه؛ فهو رب الأرباب وملك الملوك الخالق العظيم القاهر الجبار الحكيم العليم، وإذا كان قد قرر أن يعذب بعض عباده بالتخليد في نار جهنم، فما ذلك إلا لأنهم ارتكبوا أفظع وأكبر جريمة يمكن أن ترتكب، وهي جريمة الكفر به أو جحود نعمته.

ومن حيث المبدأ، حتى يقع الظلم، ينبغي ألا يكون الناس على علم بحقوقهم وواجباتهم على نحو واضح وصريح؛ فلو لم يقل لنا الله لماذا خلقنا، وما الذي ينبغي أن نؤمن به الضبط، وما الحلال وما الحرام، وما الذي سيترتب عن إيماننا وعن كفرنا، لكان من الظلم أن يعذبنا في الآخرة، لكنه سبحانه وتعالى أبلغنا بمنتهى الوضوح عبر رسالاته وأنبيائه بكل ذلك بالتفصيل، فأقام علينا الحجة، ولم يدع لأحدنا المجال لادعاء الجهل أو الغبن، وحتى لا يتهمه بعض الحمقى بالظلم جعل الثواب مساويًا تمامًا للعقاب، فالخلود في النار للكفار العصاة، يقابله الخلود في الجنة للمؤمنين التقاة.

وقد يقول قائل: أين إذن حب الله وأين المغفرة والرحمة التي ينسبها الله لنفسه إذا كان يمكن أن يعذب مخلوقته بالنار إلى الأبد!

هذا سؤال ساذج ومغالط أيضًا، لأنه كسابقه يحاول أن يُسقط المفاهيم البشرية المختلة على الله، فحب الله ورحمته هما فقط لمن يستحقهما، أي لعباده الصالحين الذين يحبونه ويطيعونه، وليس للمجرمين اللئام الذين يتنعمون في خيره ليل نهار ثم يجحدون فضله ويقابلون إحسانه بالنكران والإساءة.

إن محبة الله لعباده ورحمته بهم تتجلى أبهى ما يمكن أن تتجلى في الحديث القدسي التالي:

«عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: قال الله تبارك وتعالى: «يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة».

فالله تعالى لا يريد من عباده أكثر من الإيمان به وعدم الإشراك به والندم على خطاياهم وحماقاتهم، حتى يغفر لهم ويتجاوز عن سيئاتهم مهما بلغت ويدخلهم جناته في نعيم مقيم إلى أبد الآبدين، لكنهم يرفضون يده الممتدة إليهم بالرحمة ويتهمونه بالظلم أو ينكرون وجوده أو يعبدون غيره، ثم يتحدثون بمنتهى الصفاقة عن الظلم، وهم أظلم ما يمكن أن يكون الظلم لأنفسهم!

وأخيرًا، الحياة أقصر مما نظن، مهما طالت، فليراجع واحدنا معتقداته قبل فوات الأوان، فالأمر لا يحتمل الهزل أو المكابرة أو المماطلة أو التسويف أو خداع النفس! وأن تعيش حياتك الدنيوية القصيرة وأنت مؤمن بالله، حتى وإن اكتشفت بعد موتك، وأقول هذا من باب الجدل بالطبع، أنه ليس هناك من حياة أخروية أبدية، أفضل بما لا يقاس من أن تعيش حياتك الفانية التي تمضي كلمح البصر كافرًا به، ثم تفجع بأن تجد نفسك في مواجهته، وأنت تقاد لتعيش ذليلاً مهينًا إلى ما لا نهاية في ظلام الجحيم! وحتى وإن قررت الإصرار على كفرك، فلا بأس، وهذا شأنك، ولكن لا تحاول أن تشكك الناس في دينهم بأفكارك الشيطانية، بحجة أنك تود تنويرهم وهدايتهم إلى الحق (وكأن الكفر يمكن أن يشتمل على أي حق!)، وذلك حتى لا تضاعف من ذنوبك، وحتى لا تفاقم من جريمتك بأن تنتقل من خانة الضالين وحسب، إلى دائرة المضلين أيضًا!

.

موضوع ذات صلة (اضغط هنا) .

.

كتبه أ/ خالد سُليمان  (قصتي من سجن الإلحاد إلى حرية الإيمان)

.